Page 39 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 39
39 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
-بكسر القاف لا بفتحها ،حيث هي صفة للأحلام كن ُت قد وصفت ُه ذات مقالة سابقة نشرت في
لا مضاف إليه ،-حيث الحل ُم هنا بعينين مفتوحتين، (جهة الشعر) بـ(الإهمال الذكي) ،أي ذاك الإهمال
تتبادل فيها (الرؤيا) و(الرؤية) مواقعهما ،كضدين (المتع َّمد) الذي يمارس ُه الشاعر حيث ُتتر ُك العناصر
لتبدو عفوية أو ملقاة على قارعة الطريق ،فيما يكون
حميمين يحتاج أحدهما الآخر ويخافه في الوقت
نفسه ،فوضى ..نظام ..فوضى ..نظام ،إذ نحن لا الشاعر قد نصب لنا الفخاخ وكمن في المنعطف
نتحدث هنا عن (عالم النوم) بل عن (نوم العالم)، يراقب ما نفعل .هكذا كأنه حل ٌم يسعى إليه الشاعر
نو ًما يسمح للشاعر بـ(فوضى الحواس) بحسب
عنوان رواية (أحلام مستغانمي) ،حيث من السهولة مري ًدا ،ليتوه بإرادته ،حيث مع هذا التيه العظيم،
أن يلهو الشاعر بالعناصر وهي فاقدة لقوتها فيبدل يولد الإيمان العظيم الذي يمنح الشاعر قوة الخلق
أماكنها وكمائنها .ولنركز مرة أخرى هنا على ما ونعمة التماهي مع أشكال الوجود المختلفة ،الشر،
يصفه آرثر رامبو بـ(المنهجي) ،Systematized
الخير ،العلم ،الجهل ،الضياع ،الوصول ،إن كان
وهذا ما يجعل من الشعر غير قادر على الهرب ح ًّقا لكل هذه المفردات معنى أص ًل ،طالما أن ما
بذريعة المجاز من تهمة التجاوز على معايير
الإنسانية ،أي يجعل الشعر واستتبا ًعا الشاعر سيحصل عليه الشاعر في النهاية -يختم آرثر
رامبو -هو فقدان ذاته وفهمه لرؤاه ،ليكمل طريقه،
مسؤو ًل بالطبع ،وبعي ًدا كل البعد عن أن ُيعذ َر في
موقفه من قضايا الإنسان حين نكون مث ًل بإزاء بل ُقل طريقته ،شعراء آخرون سائرون على هذا
قضية العنصرية أو الاستبداد بحجة أنه كما سيقول المضمار بنفس القدرة الرهيبة على رؤية ما لا ُيرى
قائل مث ًل« :إنما هو شعر يتدفق عفو ًّيا عبر الإلهام
وسماع ما لا ُيسمع.
والقريحة ليس إلا!».
)١
)٢
بين الرؤية والرؤيا
الرؤيا من الرومانسية إلى الرمزية
والحق إنه إذا ما كانت اللغة الإنجليزية قد لا
تأسي ًسا على ما سبق ،أما وقد أشرنا إلى تلكم تتيح في مفرداتها مثل هذا الخلط المبدع بين الرؤية
العلاقة بين الرؤية والرؤيا ،فلنش ْر هنا ولو بشكل والحلم Vision/ Dreamوبحيث قد تأخذك مفردة
عابر ،إلى أن التغيير الذي حدث غداة التحول (الرؤية) مباشرة إلى التفكير المؤسساتي المن َّظم
من الرومانسية إلى الرمزية ،هو كما شرح لنا المبني على العلة والمعلول ،السبب والنتيجة ،والذي
أعلاه آرثر رامبو مثا ًل ،وهو أبرز ممثلي الرمزية ليس هو الشعر بالطبع بل هو الفكر والتحليل -دع
الفرنسية إلى جنب بودلير وبول فاليري وغيرهم،
هو إكساب الرؤيا (الحلم) شيئًا من الرؤية ،بقد ٍر لا جانبًا الآن أن مفكري نظريات النجاح لا يرون
يجعل القصيدة خاضعة لعشوائية الحلم وهيمانه الرؤية كافية وحدها لتحقيقه دون حل ٍم وخيا ٍل،
البريء ،حيث العالم مجرد حل ٍم جميل ووديع تتوزع ولكن هذا موضوع آخر -فإن اللغة العربية بجمالها
فيه الأدوار ببساطة بين الشر والخير ،وبين الأبيض الذي لا يقاوم ،تتيح مثل هذا التشويش الأ َّخاذ في
والأسود ،وأي ًضا لا يجعلها خاضعة لميكانيكا اليقظة مفرداتها بتحريك الياء م ًّدا إلى الأعلى -وحيث من
شأن الحلم التحليق دائ ًما -لتأتي ألِ ُف (الرؤيا) بد ًل
الصارمة ،حيث (الرؤية) العقلانية المحضة. من التاء المربوطة المغلقة الخانقة في (الرؤية)،
«لا أسج ُد للطين /ولا للورد» -القصيدة. هكذا لتصبح مساحة الحلم الشاسعة الممتدة عمود ًّيا
إن في صلب هذه العملية من جدلية الحلم فيما ليست فقط بدي ًل لـ(الرؤية) الأفقية الضيقة ولكن
قبل الحداثة مع الحداثة وهي المقولة التي لسنا -وهذا هو الأهم -مستوعبة لها أي ًضا في أرضها
بصددها هنا بالتفصيل ،كانت تجربة جيل شاعر التي يصفها آرثر رامبو بـ«التي لا حدود لها».
هذه القصيدة علوي الهاشمي وكوكبة من الشعراء نقول الاستيعاب وليس الإقصاء لئلا يظن ظا ٌّن أن
الرؤيا هنا هي مجرد أضغاث أحلام ،تستبع ُد -أو
تستعب ُد -الرؤية وتقصيها ،ك َّل ،إنها أحلا ٌم ي ِقظة