Page 44 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 44

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪44‬‬

                                                                     ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫ومثا ًل‪ ،‬ففي تاريخ القصيدة الحديثة في البحرين‬                                               ‫عن غيرهما من الكائنات‪.‬‬
   ‫اتخذ الدم دائما مكان ُه في متن وعناوين الدواوين‪،‬‬                  ‫ويضاف للإنسان ميزة على الحيوان أن مكون الدم‬
    ‫بد ًءا بأول ديوان للشاعر قاسم حداد (الدم الثاني‬
    ‫‪ ،)1975‬وليس انتهاء بآخر ديوان للشاعر حسين‬                                       ‫يمكن أن يكتسب وعيًا فيصبح رم ًزا‪.‬‬
                                                                          ‫إن في أقدم ممارسات الإنسان في علاقته مع‬
        ‫السماهيجي (د ٌم على حافة البياض ‪.)2015‬‬                         ‫الغيب والمجهول‪ ،‬يحضر الدم عربو ًنا لهذه العلاقة‬
      ‫وفي القصيدة التي نح ُن في معالجتها يقد ُم‬                      ‫عبر القرابين‪ ،‬والتي كانت في حقيقتها ليست تضحية‬
  ‫الشاع ُر هنا دم ُه فداء لقصيدة كاملة‪ ،‬أو على الأقل‬
                                                                                              ‫بأي مكون آخر غير الدم‪.‬‬
                                    ‫هكذا يريدها‪:‬‬                          ‫هذه القدسية للدم القادمة من أعرق نصوص‬
               ‫ل«اوأالسدمج اُدلللحاطليُم ِنيوسلتاولقلفونريِد الليلة‬  ‫الميثولوجيا والمستمرة عبر قرون متطاولة في مذابح‬
     ‫بل أفتح صدري للسكاكين التي تضح ُك لي‬                             ‫الديانات المختلفة في المعابد والكنائس‪ ،‬حيث ُتطل ُب‬
                                                                       ‫شفاعة الآلهة بقرابين الدماء‪ ،‬وصو ًل إلى مجد الدم‬
                                     ‫أشفارها‪:‬‬                           ‫التضحوي في الثقافة العربية‪ ،‬هي التي ستواصل‬
                            ‫هيا ادخلي كالبر ِق‬                       ‫رفد النص الحداثي في مواجهته لاستحقاقات الوجود‬
          ‫أو فانسربي بين شراييني»‪ .‬القصيدة‬                              ‫الإنساني وتمرده على إكراهات الطغيان والعسف‪،‬‬
     ‫إن من صفات هذا الدم أن ُه حال ٌم‪ ،‬حيث ‪-‬كما‬                           ‫ولن يكون ذلك بلا ثمن‪ ،‬ولن يكون هذا الثمن إلا‬
‫ذكرنا‪ -‬إ ْن تعذر ِت الرؤية «صع ٌب أن أرى»‪ ،‬فل ُتسع ِف‬
    ‫الرؤيا «الدم الحالم»‪ .‬الدم الذي يأتي عبر تحرر‬                                                      ‫الهيموجلوبين‪.‬‬
   ‫الكائن من كونه مجرد طين‪ ،‬حيث رفض السجود‬                             ‫والحق أننا إذا ما عدنا إلى الحكاية الكبرى للخلق‬
     ‫للطين هنا تفل ٌت من عجز الطين عن أن يرى بـ‬
  ‫«الرؤية»‪ ،‬ذها ًبا إلى إمكان الدم أن يرى «بالرؤيا»‪،‬‬                      ‫‪ Grand Narrative of Creation‬في الأسطورة‬
   ‫والتي هي ليست سوى الكتابة‪ .‬ولا بد للكتابة من‬                           ‫والدين‪ ،‬وسمحنا لأنفسنا التعليق على هامشها‪،‬‬
  ‫أل ٍف ممدودة طالعة من أفقية الطين إلى عمودية أو‬                       ‫لقلنا إن الفارق بين المخلوق البشري وسواه ليس‬
                          ‫إن شئت معمودية الدم‪.‬‬                         ‫هو الطين ولكن الدم الذي بدونه لا يكون الطين إلا‬
          ‫بالدم فقط يتحول الطين من مادة صلبة‬
   ‫‪ Hardware‬إلى مادة ناعمة ‪ ،Software‬إلى فكرة‪.‬‬                                                  ‫صلصا ًل لا حراك فيه‪.‬‬
  ‫وقبل أن ننسى فإن الدم هنا هو أيضا رم ٌز للسائل‬                          ‫لقد تنبه الشعر في كل اللغات كما قلنا لأهمية‬
  ‫الذي به ُتخ ُط الحكاية أو القصيد ُة على ألواح الطين‪،‬‬                ‫ثيمة الدم‪ ،‬بوصفه علامة الإنسان الفارقة في تباهيه‬
    ‫كما حفظت ُه لنا ألواح ملحمة كلكامش الإثنا عشر‪،‬‬                     ‫بوجوده الذي يضاهي به وجود الآلهة والشياطين‪،‬‬
   ‫وغيرها من الأساطير‪ ،‬وقبل أن تتحول الكتابة إلى‬                      ‫فالإنسان هو الكائن الواعي الوحيد الذي ينزف‪ ،‬فلا‬
   ‫ورق البردي وصو ًل إلى الحبر في كتاباتنا اليوم‪.‬‬                       ‫الشياطين ولا الآلهة ولا الملائكة ولا الجن تنزف‪.‬‬
  ‫هي إذن تضحي ٌة تستحق أن يفتح الشاعر صدر ُه‬                          ‫إن هذا النزيف يبدو أكثر روعة وحضو ًرا في قلب‬
                                                                     ‫النص الشعري حين يتخذ صفة الاختيار‪ ،‬حيث يذه ُب‬
                                      ‫للسكاكين‪:‬‬                        ‫الشاعر ضحية قراره الواعي بأن يكون ذبيح النص‬
         ‫«هيا انسربي بين شراييني»‪ .‬القصيدة‪.‬‬                          ‫تما ًما‪ ،‬مثلما يقرر الفارس أن يذهب ضحية لما يكاف ُح‬
                                                                         ‫من أجله‪ ،‬أو العاش ُق شهيد وصوله لمعشوقه كما‬
                 ‫‪)8‬‬
                                                                                                         ‫يقول شاعر‪:‬‬
            ‫شرف الهزيمة‬                                                                       ‫«فيا سيوف خذيني»‬
         ‫أسوة بشرف البطولة‬                                                              ‫أو كما يقول عنترة بن شداد‪:‬‬
                                                                                       ‫«ولقد ذكرت ِك والريا ٌح نواه ٌل‬
‫وعلينا هنا أن نعود لنذ ِّكر مرا ًرا وتكرا ًرا بنصيحة‬                                ‫مني وبي ُض الهند تقط ُر من دمي‬
‫رامبو الثمينة بألا نثق بقدرتنا على حسم المواجهة‪،‬‬                                        ‫فودد ُت تقبي َل السيوف لأنها‬
                                                                                      ‫لمع ْت كبارق ثغرك المتبس ِم»‪.‬‬
   39   40   41   42   43   44   45   46   47   48   49