Page 43 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 43
43 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
إن رفضه المبدئي لقبول أنكيدو الطيني ،حيث فظهرت كواك ُب في السماء
ستجري بينهما في البدء مصارعة ضخمة رهيبة وقد سقط أحدها إل َّي
تتو ُج بفوز جلجامش ،ثم بصداقة الاثنين صداقة
مخلصة لا تنتهي إلا بموت أنكيدو ،نقول إن هذا وأرد ُت أن أرفع ُه فلم أستطع
الرفض هو الذي شهدناه في النص الديني ولو بشكل ازدحم الناس حوله وقبلوا قدميه
آخر ،حيث رفض المخلوق الناري السجود للمخلوق أحببت ُه وانحني ُت عليه كما أنحني على امرأة
الطيني ،قبل أن يقرر الرب إرجاء حسم العلاقة رفعت ُه ووضعت ُه تحت قدمي ِك
بين الاثنين إلى العالم الآخر ،ليستمر هذا الصراع فجعلت ِه نظي ًرا لي» .اللوح الأول -العمود
بينهما على الأرض ،والذي ليس في نهاية المطاف الخامس -ملحمة كلكامش -ترجمة طه باقر.
إلا صرا ٌع في داخل الكائن الواحد ذاته ،بين مكوناته وستقول لنا الأسطورة إن هذا الكوكب الذي حلم
الثلاثة النور -الروح (الخير والخلق والفن والجمال به ملك أوروك العظيم جلجامش ،ليس إلا هو أنكيدو
والحكمة) والنار -النفس (الشر والقوة والشهوة)- مخلوق الطين الذي خلقته الآلهة ض ًّدا له ليذ ِّكر ُه بألا
يتجاوز صلاحياته الإلهية ،فهو -أي جلجامش -وإن
الطين -الجسد (العمل والحياة على الأرض كان ثلثاه إل ًها ،إلا أن عليه ألا يطغى وأن يتذكر دائما
والاجتماع أو الإناسة) ،وبالطبع على ما بين هذه
العناصر من تداخل وتفاعل ،فهي ليست معزولة عن ثلث ُه البشري ،أي الطيني ،أي الفناء:
بعضها إلا مجا ًزا ،وإلا بقدر ما يضطرنا عالم القراءة «أجابت جلجامش أمه البصيرة (ننسون)
النقدية إلى الفرز إجرائيًّا ليس إلا. العارفة بكل شيء
وستذ ِّكرنا القصيدة التي بين يدينا «صع ٌب أن إن رؤيت َك نظير َك كوكب السماء
أرى» بقصة هذا الصراع الذي بدأ برفض المخلوق والذي أحبب َت ُه وانحني َت عليه كما تنحني على
الناري -حتى لا أستخدم صفة الشيطان -السجود
امرأة
للمخلوق الطيني: فجعل ُت ُه أنا نظي ًرا لك
لا أسج ُد للطي ِن ولا للور ِد ليس إلا صدي ٌق معي ٌن عند الضيق سيأتي إليك».
بل أفتح صدري للسكاكين التي تضح ُك لي اللوح الأول -العمود الخامس -ملحمة كلكامش-
أشفارها .القصيدة ترجمة طه باقر.
)7 )6
دم الشعر والشاعر صلة الطين بين الخالق والمخلوق
غير أن أه َّم مكون للمخلوق الطيني الشاعر تلف ُت إن هذه ال ِخلة والتي بدأت أص ًل بصراع بين الإله،
نظرنا إليه القصيدة ليس هو الطين بل الدم .وترى أو قل بين شبه الإله (جلجامش) ،والمخلوق من طين
الورقة أن لمفردة الدم بحد ذاتها عند مجرد رؤيتها (أنكيدو) ،هي مرادفات أسطورية لميثولوجيا الخلق
في أي نص حيوية عجيبة لافتة ،خاصة بهذه المفردة
في الديانات السماوية ،حيث خلق الإنسان الأول
دون سواها. من الطين ،وهو ما أسس لأول أزمة في العلاقة بين
إن الورقة تقترح مقاربة خاصة لأثر مفردة
الدم في النص الشعري بشكل عام ،حيث يبدو أن المخلوق من نار والمخلوق من طين ،حيث رفض
لهذه المفردة ما ليس لسواها من الحضور الذي المخلوق من نار السجود للمخلوق من طين.
تنداح دوائره اندياح الماء في العين ،لتصل بالنص
إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه من أمداء الحقيقة ورغم أن ملحمة كلكامش لا تقول لنا مما ُخلق،
والناريخ .وما ذلك إلا لأن لهذا المكون البيولوجي لكنها تقول إن ثلثيه إله ،وفي سطر آخر تقول« :هو
خاصية التفريق بين الكائن الحي إنسا ًنا وحيوا ًنا المكتم ُل في الجلال والألوهية -ملحمة كلكامش»،
إلا أننا سنعتق ُد أن ُه نظ ًرا لكل هذه الصفات القدسية
أن ُه مخلو ٌق في ثلثيه الإلهيين من نور كما هو شأن
الملائكة والأرباب عادة ،وفي ثلثه البشري من طين.