Page 42 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 42
العـدد ١٩ 42
يوليو ٢٠٢٠
وإن كانت قد ميزت (الرؤية) عن (الرؤيا) مفردة ،إلا فهو هنا كما يقول مط ٌل على مذبحة مث ًل« :صع ٌب أن
أنها عندما حان وقت الفعل (رأى) جعلت ُه معب ًرا عن أرى» كل هذا الهول الفاجع؟ كل هذا الألم؟
الاثنين ،الحلم ،والعلم« ،وهذا هو بالضبط س ُر من
رأى» وأي ًضا عندما حان وقت الجمع جعلت ُه (ر ًؤى) أم ترى أنه ،لا ،وإنما تعني «صع ٌب أن أرى» ،أنني
ح ًّقا لفرط حلكة هذا الوجود ،حيث «شجر الزقوم
للاثنتين م ًعا ،حيث في الفعل وفي صيغة الجمع بين العين والعين» ،لا يمكنني أن أرى؟ أي أن هذا
يتلاشى الخط الفاصل بين (الرؤية) و(الرؤيا) ،فنكون
الشجر يحجب رؤيتي ويجعلها صعبة بل مستحيلة،
أخي ًرا أمام الشعر كما يعبر أدونيس «مفرد بصيغة خاصة إذا كانت جملة «صع ٌب أن أرى» ،وهي جملة
الجمع» وهو إن شئ َت عمود ًّيا (الروي) ،فيطل علينا
آرثر رامبو وهو يذكرنا مجد ًدا بأن الشاعر سيكون كاملة المبنى والمعنى ،ليست بحاجة لأية إضافة
تخترق القصيدة عمود ًّيا ،من عنوانها إلى ختامها،
الكل في واحد ،العالِم ،الجا ِهل ،الشرير ،المجرم برغم أنها ليست قصيدة عمودية ،وكأنها عبارة ترن
والعظيم .أو كما يقول كاتب ملحمة كلكامش: في مسمع العصور ر ًّدا على بطل ملحمة جلجامش
«وهو الحكيم العارف بكل شيء الذي تقول عنه القصيدة وتتغنى بتكرار «هو الذي
رأى» ،فيرد شاعر القرن العشرين «صع ٌب أن أرى»؟
لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة هل يجيب زمن الحاضر والمستقبل «أن أرى» ،على
لقد سلك طر ًقا بعيدة متقل ًبا ما بين التعب زمن الماضي السحيق «رأى»؟ فينق ُضه ،وينسخ ُه
والراحة بأداة النسخ «أن» ،تتحول الأغنية إلى مرثية؟ يتحول
الجواب إلى سؤال ،كما هو قمين بالشعر ح ًّقا أن
فنقش في نص ٍب من الحجر كل ما عاناه وخبره».
اللوح الأول -العمود الأول -ملحمة كلكامش -ترجمة يفجر الإجابات إلى شظايا أسئلة؟
طه باقر. )٥
لم يبصر جلجامش هذه الأسرار عبر الرؤية
فقط ،بل عبر الرؤيا قبل حدوثها .ثمة عملاق الحلم الرؤيا بوصفها بدي ًل للرؤية
يقف دائ ًما بإزاء الصحو يتنبأ بكائناته وأوقاته قبل
حدوثها .هكذا وبعد أن تضج خليقة مدينة (أوروك) أعتقد من المفهوم تما ًما هنا ،وبالنسبة لأية قراءة
وتشكو إلى الآلهة جبروت جلجامش ،والذي هو في حقيقية منصفة لقصيدة ما ،أننا في الحقيقة لا نسأل
الوقت نفسه من تصفه هذه الخليقة المضامة بأنه
مليكها الجميل القوي الحكيم ،تقرر الآلهة خلق ضد لنجيب باختيار إجابة من اثنتين كما في الامتحان
لجلجامش (أنكيدو) ،والذي سيكون من قبضة من المدرسي ،لا نسأل لنختار ،بل لنحتار ،ونقلق علَّنا
طين البرية ،وسيكون ن ًّدا محار ًبا لجلجامش ،ثم خلي ًل
وفيًّا له حتى الموت ،في تقلبات كائنات القصيدة- نبحر مع روح الشاعر في عذابها العذب.
الملحمة بين الغضب والحب ،العداوة والصداقة. غير أن الشاعر ربما لن يتركنا في هذه الحيرة
كل ذلك كان جلجامش قد رآه أي ًضا قبل حدوث ِه، فسرعان ما سيعطينا وسط حيرتنا إجابة مهمة ،حيث
أي كحلم ،وهو جزء إذن مشمول بآية «هو الذي رأى في المرتين اللتين وردت فيهما عبارة «صع ٌب أن
كل شيء» ،التي كما ذكرنا تذي ُل كل ألواح الملحمة أرى» ،يأتي الحل ُم منق ًذا« ،والدم الحالم يستوقفني
الطينية الاثني عشر وكأنها هامش Footerفي وثيقة
معاصرة بنظام الوورد Wordعلى مايكروسوفت الليلة» ،ها نحن إذن أمام (الرؤيا) حين تصع ُب
(الرؤية) ،ها نحن نمد (الياء) إلى السماء بدل أن
أوفيس: نغلقها بـ(التاء المربوطة) كقفل ضاع مفتاجه في
«وفعلا استيقظ جلجامش في تلك اللحظة
سديم الوجود.
وأخذ يق ُّص على أمه رؤياه قائ ًل لكن مه ًل ،أليس هذا هو أص ًل ما فعله جلجامش
يا أمي لقد رأيت الليلة ُحل ًما بطل أوروك العظيم ذاته؟ وهل ظنن َت أن عبارة «رأى
رأي ُت أني أسي ُر بين الأبطال كل شيء» ،تعني فقط الرؤية في أثناء اليقظة؟ أم أنه
«رأى» ي ِق ًظا وحال ًما ثم ي ِق ًظا فحال ًما وهكذا سلسلة من
الرؤى؟ وعليك إذن أن تلاحظ هنا جمال العربية التي