Page 50 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 50

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪50‬‬

                                                     ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫به عبارات محدودة ولكنها بالغة الدلالة قالها شمس‬       ‫ومفصلة عن مواقف تصا َدم فيها الرجلان‪ ،‬غير أن‬
    ‫الشموس‪ ..‬كان الباهوت صاحب بلاغة خاصة‪،‬‬            ‫فيما بين أيدينا من أخبار مؤكدات واضحة على ذلك‪.‬‬
    ‫ينحو في كلامه منحى ابن الجوزي‪ ،‬لذلك كانوا‬        ‫هناك أدلة على شعور شمس الشموس بتميز تلميذه‬
    ‫يلقبونه جوزي اليمن‪ ،‬أما شمس الشموس فكان‬
                                                          ‫الجديد (الباهوت) واختلافه‪ ،‬ولعله كان يذ ِّكره‬
‫أكثر استغرا ًقا في الجانب الرمزي الإشاري‪ ،‬كما أنه‬     ‫بنفسه‪ ،‬الفتوة والإحساس بالذات وقوة الشخصية‪،‬‬
   ‫من خلال نصوصه المتوفرة كان أكثر جرأة على‬
  ‫الشطح من الباهوت‪ ،‬قال له ذات يوم‪ :‬أنت جوزي‬              ‫ومن هذه الأدلة نفسها سنفهم أي ًضا مقدار ثقة‬
  ‫الوقت وأنا دورته وأخشى دورتي تكسر جوزتك‪.‬‬                            ‫الشيخ (شمس الشموس) بنفسه‪.‬‬
 ‫ومعنى هذا أن شمس الشموس هو قطب الزمان‬
      ‫وفلكه الدوار الذي يطحن ثمار من يزاحمه أو‬         ‫أم َلى شمس الشموس ذات يوم شيئًا من كلامه‬
                                    ‫يتداخل معه‪.‬‬         ‫على بعض أصحابه‪ ،‬فكتبه‪ ،‬كان شمس الشموس‬

‫هناك إذن ملمح تنافس بدأ يؤشر على نفسه‪ ،‬لقد‬                ‫(الشيخ) ُيملي الكلام ويرمق الباهوت (التلميذ)‬
    ‫استعرض الباهوت أحواله‪ ،‬وعرض أقواله‪ ،‬ومن‬            ‫المتح ِّفز‪ ،‬يرصد تعابير وجهه‪ ،‬ويقرأ بحاله الباذخ‬
                                                        ‫ما يتك َّشف له مما يجول في صدره‪ ،‬فجأة توقف‬
  ‫داخل الرباط الغيثي أعلن عن استقلال شخصيته‪،‬‬           ‫الشيخ عن الإملاء وركز بصره النافذ على التلميذ‪،‬‬
‫وهذا ما أثار حفيظة شمس الشموس فواجهه بعبارة‬
                                                                                             ‫وقال له‪:‬‬
                                    ‫التحذير تلك‪.‬‬                                  ‫‪ -‬أ ِتم هذا الكلام‪.‬‬
‫وكما فعل هو مع شيخيه ابن أفلح والأهدل‪ ،‬حتى‬              ‫فوجئ الباهوت بالطلب‪ ،‬للحظة أحس أن داخله‬
                                                          ‫كله مكشوف أمام الشيخ‪ ،‬لكنه بسرعة استعاد‬
  ‫طرده الأول‪ ،‬وأوصى الثاني أن لا يرث مكانه بعد‬            ‫توازنه‪ ،‬وبمنتهى التواضع أخذ الورقة ثم قبلها‬
  ‫موته‪ ،‬سيتفاقم التحدي من قبل الباهوت (التلميذ)‬
                                                                                               ‫وقال‪:‬‬
    ‫لشمس الشموس (الشيخ) حتى يخرج من عنده‬                     ‫‪ -‬ما يحسن بالعبد أن ُيتم كلام سيده‪.‬‬
    ‫بلا دستور‪ ،‬والدستور منشور يح ِّدد فيه الشيخ‬         ‫الظاهر من مجريات هذا الموقف تقدير الشيخ‬
     ‫للتلميذ أذكاره ومهامه‪ ،‬ومعناه أن يتقيد التلميذ‬      ‫لنجابة تلميذه‪ ،‬ومحاولته تمييزه من خلال طلبه‬
  ‫بأساليب الشيخ ومنهجه في كل شيء‪ ،‬أما ما دام‬          ‫إليه أن ُيكمل الكلام‪ ..‬والظاهر أي ًضا احترام التلميذ‬
                                                        ‫لشيخه‪ ،‬وتقديره لمكانته وعلو كعبه في المعارف‬
                                                            ‫وعلوم الحقائق من خلال ذلك الاعتذار البالغ‬

                                                                                             ‫التهذيب‪.‬‬
                                                          ‫أما باطنه فيمكن أن نتلَّس فيه شعور الشيخ‬
                                                       ‫بهواجس التحدي والتم ُّرد في نفس تلميذه‪ ،‬ولذلك‬
                                                         ‫أراد أن يختبر مقدار جرأته‪ ،‬على التحدي‪ ،‬حيث‬
                                                     ‫سيدل إقدامه على إتمام الكلام على شعوره بالندية‪،‬‬
                                                      ‫وساعتها لن يكون ثمة شيخ ومريد‪ ،‬بل سيفان في‬
                                                         ‫غمد‪ ،‬وهذا محال تق ُّبله‪ ،‬فهو عين ما حدث قدي ًما‬
                                                        ‫لشمس الشموس مع شيخه ابن أفلح‪ ،‬حين كانت‬
                                                        ‫أحواله تخرج عن السيطرة وتناطح أحوال الشيخ‬

                                                                          ‫فقال له‪ :‬زبيد لا تسعنا م ًعا‪.‬‬
                                                       ‫ولكن الباهوت ربما شعر أن الوقت لم يحن بعد‬

                                                               ‫فانسحب من المواجهة بدبلوماسية ذكية‪.‬‬
                                                        ‫غير أن هذا لن يدوم طوي ًل‪ ،‬فاصطدام حاليهما‬
                                                     ‫قريب لا محالة‪ ،‬وقبل أن يتم إعلانه صراحة ستشي‬
   45   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55