Page 52 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 52
العـدد ١٩ 52
يوليو ٢٠٢٠
الضمائر من الدلالة على المتكلم إلى الدلالة على بعد هذا التراجع (من قبل ال َّطرفين) ،وهو
المخاطب: تراجع ين ُّم عن غير قليل من الأسى لما حدث ،تك ُّر
جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا السنوات ،وتتج َّدد دواعي الحوار بينهما ،وهو
حتى انتهيت مراتب الإبداع حوار على قدر كبير من العمق لغة ومدلولات
رمزية إشارية ،هي في المقام العالي ج ًّدا من كلام
..ثم راح يشرحها بهذه الطريقة :جزت الصفوف
أي مقامات الأولياء أو صفوف الملائكة ،إلى الصوفية.
كتب الباهوت أحمد بن علوان من بلاده (جبا) إلى
الحروف :أي علم الحروف ،والأسماء إلى الهجاء :أي شيخه السابق شمس الشموس أبو الغيث بن جميل
الاطلاع على الأسرار ،حتى انتهيت مراتب الإبداع:
رسالة جاء فيها :أما بعد فإني أخبرك أني:
أي إلى أن تتص َّرف فيما أذن لك الله فيه بقدرته ،وقد جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا
م َّر أنه يجوز أن يعطى الولي نظير كرامات الأنبياء
بشرط عدم التح ِّدي بالنبوة ،أو أن المراد أن الله حتى انتهيت مراتب الإبدا ِع
أطلعك على تكوين الخلق أو أسمعك صريف القلم لا باسم ليلى أستعين على ال ُّسرى
الذي أمر بكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ،ومعنى
جف القلم بما أنت لاق الكناية عن القضاء المبرم كلا ،ولا ليلى تقل شراعي.
الذي هو في أم الكتاب لا يقبل تبدي ًل ولا تغيي ًرا: تأ َّمل شمس الشموس أبو الغيث بن جميل كلام
لا باسم ليلى استعنت على الثرى
كلا ولا لبنى ترد شراعي الباهوت وشعر أن تلميذه المتم ِّرد تتمادى به
أي لم تستعن بشيخ ولا غيره فيما فوض إليك الأحوال لتخرجه إلى سجال لا ُتحمد عقباه ،وأنه
من التصرف في قطع مهامه العوائق ،بل صرت يجب أن يكون حاز ًما معه ،وأن يكون رده عليه قو ًّيا
مستق ًل بنفسك في التصرف مأذو ًنا فيه لا تحتاج هذه المرة ،فكتب إليه :من الفقير إلى الله تعالى
إلى شيخ يدلك ،ولا تحمل شرا ًعا ،أي قلع مركبك أبي الغيث بن جميل غذي نعمة الله في محل
الساري في بحر المعارف ،وشهود مجاري الأقدار
الحضرة ،أما بعد فإني أخبرك أني:
واللطائف ،ولا تمسك سكانه لعرفانك بالبحر ومحل تجلَّى لي الاسم القديم بإسمه
أخطاره. فاشت َّقت الأسماء من أسمائي
>>> وحباني المل ُك المهيمن وارتضى
فالأرض أرضي والسماء سمائي.
ثم تمضي الأيام ،وينضج ابن علوان أكثر فأكثر، يا ابن علوان أبت المراهم الشافية أن تقع على
وتتأ َّكد مكانته الكبرى في الولاية ،فيخلق ذلك جرحك الخبيث حتى تعدم بمرر العقاقير.
إن تصادم أحوال الشيخين واضح هنا رغم
عنده ول ًها كبي ًرا بشيخه السابق ،وعرفا ًنا كبي ًرا له، كثرة المصادر التاريخية التي قدمت رسالة ابن
وتتمزق روحه الشفافة الشاعرة بالجدب؛ نتيجة علوان ورد ابن جميل عليها بوصفهما جز ًءا من
الانقطاع وطول البعد والمهاجرة ،فيكتب إليه سجال روحي إبداعي إشاري ،لا ُيؤخذ بظاهره بل
يؤول تأوي ًل باطنيًّا ،ويقرأ في سياقاته التي ُتنبئ
معتذ ًرا ،معلنًا -مرة أخرى -عن رغبته تعفير الوجه عن مقدار ما بلغه الشيخان في مراقي القرب ،وما
في تراب المكان ،اعترا ًفا بالخطأ والإساءة ،اللذين أعطاهما الله من ُقدرة على التص ُّرف الروحي في
أورثاه -كما يقول -كآبة وحز ًنا لا حدود لهما ،وهو كونه الواسع.
إذ يطلب الغفران بذ ِّل نف ٍس كما يقول ،فهو أي ًضا ولكن واح ًدا من قارئ ْي هذين النصين أخرج ما
جاء في رسالة ابن علوان من مدلولات تشير إلى
يصرح أن جوا ًبا من شيخه -ولو بالإشارة -كفيل
بغسل نفسه وتخفيف حمله الثقيل ،وهذا هو نص التح ِّدي ،إلى مدلولات تنزاح بها لتجعلها مد ًحا
لشمس الشموس .ذلك ما فعله الع َّلمة الكبير ابن
القصيدة التي يبدو الباهوت وكأنما كان يكتبها حجر الهيثمي الذي أورد بيتي ابن علوان بعد تغيير
بدموع القلب: