Page 251 - m
P. 251

‫‪249‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

 ‫صورة أقرب إلى الرمز منها‬       ‫العودة إلى الحارة‪ :‬الحقيقة‪/‬‬                       ‫أساسيان‪:‬‬
‫إلى الواقع‪ ،‬لأنه يعيش أجيا ًل‬  ‫الرمز‪ ،‬الواقعية‪ /‬الأسطورية‪،‬‬          ‫‪ -‬المستوى الواقعي‪ :‬كما‬
  ‫متعاقبة ولا يموت‪ ،‬كما أننا‬
                                 ‫المحدودة‪ /‬اللامحدودة هو‬               ‫يتضح في رواية زقاق‬
  ‫لا نستطيع أن نحدد عمره‪،‬‬           ‫أمر مهم للشكل الملحمي‬          ‫المدق‪ ،‬ورواية خان الخليلي‬
   ‫وهو لا يظهر إلا في مرات‬                                        ‫وغيرهما‪ ،‬وقد قدمت صو ًرا‬
                               ‫الذي اختاره الكاتب قالبًا فنيًّا‬
     ‫قليلة لأبنائه أو أحفاده‪،‬‬     ‫يصب فيه الوقائع‪ ،‬والذي‬               ‫حية للمجتمع المصري‬
‫ويرتبط حضوره دو ًما بحدث‬          ‫يستلزم مكا ًنا وزما ًنا غير‬    ‫وصراعاته وتطوراته المختلفة‬
‫يغير مجرى حياة الحارة‪ ،‬قد‬        ‫محددين‪ ،‬وينتمي من حيث‬
                                  ‫التاريخ إلى الماضي البعيد‬           ‫مع الجديد في الحضارة‬
   ‫يكون الحدث جريمة مث ًل‪،‬‬       ‫للإنسانية‪ ،‬والذي يمكن أن‬          ‫الحديثة‪ ،‬وتبرز فيها عناية‬
‫وقد يكون إعادة لإقامة العدل‬                                         ‫الكاتب بالملامح التفصيلية‬
                               ‫يمتد من آدم الأول حتى آدم‬             ‫الدقيقة والواقعية للمكان‬
         ‫لفترات يعقبها ظلم‪.‬‬    ‫الأخير في المستقبل اللانهائي‪.‬‬
     ‫وفي مقابل الحارة يوجد‬                                                    ‫الذي يصوره‪.‬‬
                                    ‫إن «أبناء الجبلاوي» في‬        ‫‪ -‬المستوى الفلسفي‪ :‬حيث‬
       ‫«البيت الكبير»‪ ،‬الوجه‬   ‫الرواية هم أبناء الإنسانية في‬
     ‫الآخر لأسطورة الحارة‬                                              ‫تصبح بدي ًل عن العالم‬
  ‫الذي تتحدث عنه الروايات‪،‬‬       ‫أجيالها المختلفة منذ سيدنا‬          ‫بأسره وصورة مختزلة‬
    ‫هو رأس الحارة المتصلة‬           ‫آدم إلى الآن‪ ،‬و»الحارة»‬      ‫للحياة بكل ما فيها من أفكار‬
    ‫ناصيتها بالصحراء‪ .‬وقد‬                                         ‫ومصائر وأقدار وصراعات‬
 ‫بدأت بالبيت الكبير واتسعت‬      ‫هي العالم أو هي الدنيا التي‬      ‫هائلة كما في أولاد حارتنا(‪.)iii‬‬
 ‫داخل الصحراء‪ .‬وبين البيت‬        ‫يعيش فيها الإنسان ويفرح‬             ‫وقد لجأ محفوظ للترميز‬
 ‫الكبير والجبل يوجد الخلاء‪.‬‬       ‫فيها أحيا ًنا ويعاني أحيا ًنا‬     ‫واشتط في التورية إلى حد‬
‫وبينهما توجد الجبانة‪ ،‬فحيث‬      ‫أخرى‪ ،‬هي مزيج مركب من‬                  ‫التجريد‪ ،‬بحيث تختفي‬
   ‫تكون الحياة يكون الموت‪:‬‬     ‫الانتصارات والانكسارات(*)‪.‬‬           ‫الحقائق كما يقول جورج‬
  ‫«كان مكان حارتنا خلاء‪.‬‬       ‫أما الجبلاوي نفسه (صاحب‬
 ‫فهو امتداد لصحراء المقطم‬        ‫البيت) فهو أحد أركان هذه‬                      ‫طرابيشي(‪.)iv‬‬
 ‫الذي يربض في الأفق‪ .‬ولم‬                                                ‫وقد أشار محفوظ إلى‬
   ‫يكن بالخلاء من قائم إلا‬         ‫الأسطورة‪ ،‬فعمره يفوق‬             ‫استخدامه المزدوج لمدلول‬
   ‫البيت الكبير الذي شيده‬         ‫ما يعمر الإنسان وباسمه‬            ‫الحارة لديه قائ ًل‪« :‬كتبت‬
‫الجبلاوي كأنما ليتحدى به‬        ‫ُسميت الحارة وهو صاحب‬            ‫عن الحارة كحارة‪ ،‬وكتبت‬
  ‫الخوف والوحشة وقطاع‬              ‫أوقافها‪ .‬وكان قائ ًما فوق‬            ‫عنها كوطن‪ ،‬وكتبت‬
 ‫الطريق‪ .‬كان سوره الكبير‬           ‫أرضها والأحكار المحيطة‬            ‫عنها كالوطن الأكبر أو‬
     ‫العالي يتحلق مساحة‬            ‫بها في الخلاء‪ ،‬عاش فيها‬
    ‫واسعة‪ ،‬نصفها الغربي‬         ‫وحده وهي خلاء خراب‪ ،‬ثم‬                         ‫البشرية»(‪.)v‬‬
   ‫حديقة‪ ،‬والشرقي مسكن‬         ‫امتلكها بقوة ساعده ومنزلته‬          ‫وإذا تأملنا الزمن في رواية‬
    ‫مك َّون من أدوار ثلاثة»‪.‬‬     ‫عند الوالي‪« :‬فقد كان فتوة‬        ‫«أولاد حارتنا» سوف نجده‬
      ‫(أولاد حارتنا‪ ،‬ص‪)11‬‬        ‫لا كالفتوات الآخرين‪ ،‬فلم‬
      ‫وقد كانت بداية معاناة‬    ‫يفرض إتاوات على أحد ولم‬               ‫قد جاء مفتو ًحا بلا بداية‬
     ‫«أبناء الجبلاوي»‪ ،‬حين‬       ‫يستكبر في الأرض‪ ،‬وكان‬              ‫ولا نهاية‪ ،‬فكان ولا بد أن‬
   ‫طرد الجبلاوي ابنه الكبير‬      ‫بالضعفاء رحيما»‪( .‬أولاد‬
  ‫«إدريس» من البيت الكبير‪،‬‬                                            ‫يكون المكان كذلك‪ ،‬ومن‬
                                            ‫حارتنا‪ ،‬ص‪)6‬‬              ‫هنا كان لا بد للمؤلف أن‬
                                   ‫وصورة الجبلاوي ‪-‬كما‬           ‫يستخدم الحارة ثانية لتكون‬
                                  ‫تظهر لنا في الراواية‪ -‬هي‬           ‫رم ًزا ومسر ًحا للأحداث‪.‬‬
                                                                   ‫ومما يلفت الانتباه أن هذه‬
   246   247   248   249   250   251   252   253   254   255   256