Page 263 - m
P. 263

‫الملف الثقـافي ‪2 6 1‬‬

 ‫يبادل حميدة في كره المكان‪،‬‬      ‫الموقف من جانب واحد كنا‬           ‫طبائع الشخوص‪ ،‬وبين‬
‫والسخط عليه والتبرم من كل‬         ‫غير منصفين على المستوي‬            ‫ساعات اليوم‪ ،‬كطبيعة‬
 ‫ما يحويه من أشياء (حسين‬                                        ‫الفطر الإنسانية في الأمكنة‬
                                      ‫الاجتماعي‪ ،‬فإذا كانت‬     ‫الواقعية‪ ،‬ولذلك نجد حميدة‬
     ‫كرشه) من يحمل كثي ًرا‬      ‫حميدة قد أهدت هذا الوصف‬       ‫المتبرمة المتمردة التي ترى في‬
    ‫من صفاتها حيث‪ :‬القلق‪،‬‬                                       ‫المال الملجأ والملاذ والمخرج‬
 ‫والتوتر‪ ،‬والطيش‪ ،‬والسخط‬           ‫للزقاق‪ ،‬فإن الزقاق تبادل‬   ‫من كل متاعب الحياة وضيق‬
    ‫وعدم الرضا‪ ،‬ناهيك عن‬          ‫معها سخطها‪ ،‬وعاملها بما‬        ‫الدنيا‪ ،‬نعم تراه مثل كثير‬
     ‫كونه أخاها في الرضاعة‬      ‫عاملت أهله‪ ،‬وبادلها الصفات‬        ‫من النساء في كل الأزمنة‬
    ‫«أجل كان من زمن بعيد‬         ‫ذاتها‪ ،‬فجعلها مقملة لا تهتم‬    ‫والعصور القوة والسعادة‪،‬‬
 ‫يعلن كراهيته للزقاق وأهله‪،‬‬      ‫بشعرها‪ ،‬ولا تغسله إلا مرة‬
  ‫ويتطلع لحياة جديدة ولكنه‬        ‫كل شهرين‪ ،‬وهذه صفات‬                 ‫من هنا ربط يوسف‬
  ‫لم يستبن سبيله‪ ،‬ولم يعزم‬                                    ‫الشاروني بينها وبين أدريانا‬
    ‫عزمة صادقة على تحقيق‬             ‫يكفي ج ًّدا أن تتسم بها‬
    ‫أحلامه حتى ذهب الحلو‪،‬‬         ‫أي امرأة لتخرج عن نطاق‬            ‫بطلة ألبرتو مورافيا في‬
    ‫فجن جنونه‪ ،‬وكأنما كبر‬         ‫الأنوثة الأليفة‪ .‬وحين غير‬    ‫روايته امرأة من روما حيث‬
  ‫عليه أن يجدد الحلو حياته‪،‬‬         ‫محفوظ المكان ونقلها إلى‬
    ‫وينأى بنفسه عن الزقاق‬         ‫مكان آخر‪ ،‬تغيرت صفات‬           ‫يقود البطلتين في طريقهما‬
‫القذر‪ ،‬وهو باق فيه لا يدري‬         ‫كل منهما‪ ،‬صارت راضية‬             ‫المحتوم أسباب الرغبة‬
   ‫كيف يتخلص منه‪ ،‬فأجمع‬          ‫عن المكان التي صارت إليه‪،‬‬
‫عزمه على تجديد حياته مهما‬         ‫وبالتالي ظنت أن المكان قد‬     ‫والتورط م ًعا‪ ،‬ومن هنا جاء‬
                                ‫رضي عنها هو الآخر‪ ،‬وظهر‬            ‫التمرد على المكان وأهله‪،‬‬
      ‫كلفه الأمر» (ص‪.)115‬‬         ‫ذلك على شكلها الخارجي‪،‬‬          ‫تأتينا صورتها الوصفية‬
     ‫على الجانب المقابل يأتي‬    ‫فبدلت الثياب بثياب وأصبح‬           ‫للزقاق‪ ،‬مشمئزة من كل‬
  ‫عباس الحلو المحب العاشق‬        ‫الشعر معط ًرا ممش ًطا حتى‬
‫للزقاق‪ ،‬فإذا كانت حميدة قد‬                                    ‫شيء‪ ،‬ساخطة على كل شيء‪،‬‬
   ‫نظرت باشمئزاز واحتقار‬              ‫أن تمشيطه‪ ،‬والاعتناء‬      ‫حتى أن المؤلف وفق كثي ًرا‬
                                   ‫به‪ ،‬تعدد ذكره في الرواية‬     ‫في رسم هذه الصورة التي‬
        ‫لكل شخوص المكان‪،‬‬            ‫إلى درجة عالية عن باقي‬
   ‫فعباس يحمل ألفة لكل ما‬        ‫الاهتمام بمفاتنها الجسدية‪.‬‬   ‫تنبع من تشرب وتعمق روح‬
     ‫يحويه المكان من أشياء‪،‬‬                                        ‫الشخصية التي يصفها‪،‬‬
   ‫يظهر ذلك في لحظة وداعه‬
   ‫لهم جمي ًعا بلا استثناء‪ :‬أم‬                                ‫فحميدة حينما نظرت لتصف‪،‬‬
     ‫حميدة‪ ،‬الدكتور بوشي‪،‬‬                                     ‫لم تترك النافذة مفتوحة كلية‬
   ‫السيد رضوان الحسيني‪،‬‬
                                                                ‫لأنها لو فعلت ذلك لصارت‬
      ‫القهوة‪ ،‬كل ودعه‪ ،‬وكل‬                                          ‫منفتحة على هذا العالم‬
    ‫تمنى له الخير‪ ،‬حين قال‬
  ‫له حسين كرشه‪ ،‬ودع هذه‬                                          ‫محبة له‪ ،‬مقبلة على الدنيا‬
     ‫الحياة القذرة‪ ،‬واستمتع‬                                        ‫من تلك النافذة الضيقة؛‬
  ‫بالحياة الحقيقية‪« ..‬فابتسم‬                                       ‫لكنها لم تترك إلا امتداد‬
     ‫الحلو صامتًا وقد أخفى‬                                       ‫قيراطين من الفراغ‪ ،‬وكأن‬
  ‫عن صاحبه الكآبة القابضة‬                                        ‫هؤلاء الناس لا يستحقون‬
                                                                ‫أكثر من هذا لرؤيتهم‪ ،‬فهم‬
                                                               ‫ضئيلو الحجم‪ ،‬لهذه الدرجة‬
                                                                   ‫كان محفوظ دقي ًقا عالمًا‬
                                                               ‫بجوانب شخصياته النفسية‬
                                                                 ‫والاجتماعية‪ ،‬لو أننا أخذنا‬
   258   259   260   261   262   263   264   265   266   267   268