Page 278 - m
P. 278

‫العـدد ‪60‬‬                                  ‫‪276‬‬

                                  ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬                           ‫الوضع ما قبل البشري؟ هل‬
                                                                       ‫فع ًل انتقلت البشرية من عالم‬
‫لقول المرحوم نجيب محفوظ‬              ‫تأويل روايته بالقول «إنها‬          ‫السحر والأسطورة والأديان‬
  ‫إنه «لو قرأها الذين فسروا‬           ‫رواية تدافع عن الإسلام‬
                                  ‫وسائر الديانات»‪ ،‬بعد أن كان‬             ‫واللامعقول‪ ،‬كي تصل إلى‬
‫ضدي بعين أدبية لما فسروها‬         ‫قد أ َّولها ساب ًقا على أنها مجرد‬       ‫العقل والعلم والتقنية‪ ،‬كما‬
   ‫حسب هواهم»‪ .‬لأن هذا لا‬              ‫«حكايات تخضع لأهواء‬
  ‫يعني سوى أن هناك قراءة‬            ‫الرواة وتحزباتهم»‪ ،‬أو أنها‬               ‫تمنى نجيب محفوظ في‬
    ‫واحدة للنص‪ ،‬هي قراءة‬            ‫رمز ضد السلطة الشمولية‬              ‫روايته؟ و»هل ضرب موقفنا‬
  ‫الكاتب بالذات‪ .‬والحال‪ ،‬أن‬          ‫للنظام العسكري في بلاده‪.‬‬
   ‫النص لغة‪ ،‬وأن اللغة تولد‬          ‫ما جعله يعلن‪ ،‬بالتالي‪ ،‬عن‬            ‫المعاصر صف ًحا عن ضباب‬
                                       ‫تفهمه لموقف الأزهر من‬               ‫الخرافة‪ ،‬ونسي بالمرة أنه‬
‫الدلالات بطبعها‪ ،‬وهناك دائ ًما‬    ‫عمله‪ ،‬ويشيد به «كقلعة دائمة‬             ‫يحمل ماضيه الحي برمته‬
   ‫فجوات بين اللغة والمعنى‪،‬‬           ‫للإسلام»‪ ،‬ويسمح له في‬               ‫في الطبقات السفلى لناطحة‬
                                   ‫النهاية‪ ،‬أي قبل وفاته بقليل‪،‬‬             ‫سحاب واعيته العقلية؟»‬
 ‫أي بين الدال والمدلول‪ .‬وهي‬          ‫بالإشراف على إعادة نشر‬
 ‫الفجوات التي تسمح للقارئ‬          ‫الرواية مع تقديم لأحد علماء‬                          ‫(ك‪.‬يونغ)؟‬
                                  ‫الدين‪ .‬إنها عودة واضحة إذن‬                   ‫ز‪ -‬تفادي القطيعة‪:‬‬
    ‫بملئها بالمعنى أو المعاني‬     ‫للالتفاف حول المتخيل العربي‬           ‫يبدو أن هذه الأسئلة وغيرها‬
  ‫التي تناسب هواه وتكوينه‬          ‫الإسلامي‪ ،‬قصد الحفاظ على‬             ‫هي التي جعلت أديبنا نجيب‬
 ‫والزمان والمكان الذي يعيش‬          ‫التواصل معه بدل القطيعة‪،‬‬             ‫محفوظ يستنكف طوي ًل عن‬
                                   ‫لاسيما بعد أن أخذت المسألة‬            ‫نشر روايته «أولاد حارتنا»‬
                      ‫فيه‪.‬‬            ‫أبعا ًدا سياسية ودينية لم‬           ‫على الرغم من إلحاح بعض‬
‫ما يفيد أننا دائ ًما إزاء «إساءة‬      ‫يعد بالإمكان التحكم فيها‬           ‫المثقفين العلمانيين على ذلك‪،‬‬
‫قراءة» لهذا النص أو ذلك‪ .‬ما‬            ‫مثل‪ :‬ربط رواية سلمان‬                  ‫بل واتهام بعضهم إياه‬
                                    ‫رشدي «الآيات الشيطانية»‬               ‫بالمصادرة الذاتية لأعماله‪.‬‬
  ‫يفسر الاختلاف‪ ،‬ويخصب‬               ‫بالمخططات الغربية لضرب‬               ‫ذلك‪ ،‬أن المشكلة في العمق‪،‬‬
‫النص بإعطائه دلالات جديدة‬                                                ‫ليست مجرد نشر عمل من‬
                                         ‫الإسلام‪ ،‬وربط جائزة‬             ‫أجل تحدي رجال الدين‪ ،‬بل‬
  ‫قد تتجاوز بكثير ما قصده‬               ‫نوبل التي حصل عليها‬            ‫ما إذا كان المجتمع نفسه قاب ًل‬
   ‫المؤلف‪ .‬وعلى العكس‪ ،‬فأي‬           ‫نجيب محفوظ بالمخططات‬               ‫لاستيعاب وهضم ما يعرض‬
    ‫نظرة أحادية للنص‪ ،‬ولو‬             ‫الصهيونية والأمريكية في‬               ‫عليه من أعمال نظرية أو‬
‫جاءت من المؤلف ذاته (قراءة‬          ‫المنطقة‪ ،‬و‪ ..‬إلى غير ذلك من‬
 ‫صحيحة يعني) قد لا تكون‬                ‫الهذيان الديني المتطرف‪.‬‬                            ‫تخييلية‪.‬‬
                                                                           ‫وهو المجتمع الذي يشكو‪،‬‬
    ‫سوى إفقار للنص وقتل‬                       ‫ح‪ -‬النص لغة‪:‬‬                  ‫على رأي علي زيعور‪ ،‬من‬
 ‫للاختلاف‪ .‬وهنا لا فرق بين‬          ‫لكن‪ ،‬هل هذا يحل المشكلة؟‬           ‫انجراحات في الصحة النفسية‬
‫الفقيه والمثقف‪ ،‬بين العلماني‬       ‫لا أظن ذلك‪ ،‬فمسألة التأويل‬            ‫الاجتماعية‪ ،‬والتي تتمثل في‬
                                                                       ‫آثار التسلط والأمية والتخلف‬
   ‫والديني‪ .‬فقد يكون الفقيه‬            ‫بقدر ما هي ليست حك ًرا‬             ‫وسيادة اللامعقول‪ ،‬والتي‬
    ‫أكثر تنوي ًرا من العلماني‪،‬‬      ‫على هذا الطرف أو ذاك كان‬             ‫تجعله فريسة سهلة للخداع‬
    ‫والعكس‪ .‬وهو ما يتضح‬            ‫علمانيًّا أم دينيًّا‪ ،‬بقدر ما أنها‬  ‫والتهييج الشعبوي السياسي‬
  ‫جليًّا من المواقف التي سبق‬                                            ‫والديني‪ .‬ولعل هذا هو الذي‬
   ‫عرضها‪ ،‬ومنها على سبيل‬              ‫ليست حك ًرا على صاحب‬               ‫جعل أديبنا يسعى إلى إعادة‬
                                    ‫النص نفسه‪ .‬لذلك لا معنى‬
                     ‫المثال‪:‬‬
 ‫رأى جلال كشك وهو رجل‬
 ‫دين‪ ،‬أن رواية أولاد حارتنا‬

    ‫لا علاقة لها بالدين وهي‬
 ‫عمل أدبي بامتياز‪ .‬فيما رأى‬
‫جورج طرابيشي‪ ،‬وهو مفكر‬
   273   274   275   276   277   278   279   280   281   282   283