Page 54 - m
P. 54

‫العـدد ‪60‬‬   ‫‪52‬‬

                                                          ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

      ‫بل التوحد‪ ،‬أو الملكية (أ ِّني‪ ..‬لهم)؛ ليكون الجزء‬    ‫متسعة تخيفه وتفزعه‪ ،‬ولأن الشاعر صاحب رمزية‬
    ‫الثالث من ذلك التساؤل سبي ًل إلى الخلاص؛ لأنه‬              ‫دالة‪ ،‬فإن اختياره لصيغة‪ ،‬ملكيته (وطني)‪ ،‬تلك‬
   ‫هنا وضع التخيير سبي ًل للكشف عن التوطين‪ ،‬أو‬
      ‫التوطن (وطن)‪ ،‬أو الهجرة والتهجر (أو سفر)‪،‬‬            ‫تسطر شط ًرا شعر ًّيا‪ ،‬وتحتويه استراتيجيًّا وفضائيًّا‬
                                                              ‫و مكانيًّا‪ ،‬فإن ذلك يعادل فنيًّا تلك الملكية المفرطة‬
      ‫ولأنها أي الشجرة من سوء حالها تعطي حق‬                                              ‫لوطنه دون سواه‪.‬‬
       ‫الاختيار للعصافير (أبنائها)‪ ،‬ولا غضاضة في‬
‫تخييرهم‪ ،‬أو تخيرهم‪ ،‬ولأنها الشجرة المهملة ستصبر‬            ‫وبعدما حدد محمود درويش ملكيته لوطنه‪ ،‬وتفرده‬
   ‫على اختيارهم‪ ،‬إما الوطن والاستقرار‪ ،‬وإما السفر‬          ‫به‪ ،‬راح يتساءل ليشرك معه غيره‪ ،‬نعم راح يتساءل‬
‫والهجرة‪ ،‬لكنها هي ذاتها ستبقي منتظرة أملها الجديد‬         ‫على لسان الشجرة المهملة (هل تحس العصافير أ ِّنى‪..‬‬
   ‫(إ َّنني أنتظر)‪ ،‬دالة بتأكيد الانتظار في حالها وآنها؛‬
     ‫لأنها علي يقين بعودة اخضرارها مرة‪ ،‬بل مرات‬              ‫لها؟!)‪ ،‬هنا ينتقل من الوطن في عمومه وملكيته إلى‬
  ‫أخرى‪ ،‬عبر الزمان والمكان‪ ،‬أو عودتهم هم أنفسهم؛‬             ‫أحد لوازمه‪ ،‬وهو العصفور‪ ،‬وإن أجملها وجمعها‪،‬‬
       ‫للاعتناء بها بعدما أهملوها‪ ،‬فهي وإن أعطتهم‬           ‫لتكون مسؤولية جماعية دالة‪ ،‬وهو تساؤل‪ ،‬ظاهره‬
    ‫حق الاختيار بين (الوطن) أي الاستقرار والبقاء‪،‬‬             ‫الإنكار والتعجب‪ ،‬وباطنه التقرير والتيقن؛ ليؤكد‬
‫(والسفر) أي الترحال والتهجر‪ ،‬غير أنها آثرت البقاء‪،‬‬           ‫الرؤية الأخيرة بتأكيد دال (أ ِّني) وغيبة دال (لها)‪،‬‬
     ‫أو الانتظار (إنني أنتظر)‪ ،‬أم ًل في استنفار القار‬      ‫إن الشاعر هنا يتساءل على لسان شجرته تلك‪ ،‬ناق ًل‬
                                                             ‫إياها من طبيعتها الصامتة إلى طبيعة حية متحركة‬
                  ‫الحاضر‪ ،‬وعودة المهاجر الغائب‪.‬‬              ‫شاخصة‪ ،‬تحس وتشعر وتجيب‪ ،‬هنا يتساءل على‬
                                                              ‫لسان شجرته المهملة تلك؛ ليعمق الإحساس لدى‬
     ‫ثان ًيا‪ :‬الشجرة الجسد والثمرة‬
                                                                 ‫المتلقي بحالة الوطن المشتت بطقسه وطبيعته‪.‬‬
    ‫ويجيء المشهد‪ ،‬أو المقطع الثاني من تلك القصيدة‬         ‫وراح يكمل الشاعر محمود درويش سؤاله أو تساؤله‬
‫عبر تخيير آخر‪ ،‬بعد أن بدا هذه المرة مرتب ًطا بفصول‬
                                                           ‫على لسان شجرته تلك؛ ليجيب بعد ذلك تصري ًحا أو‬
       ‫السنة‪ ،‬وتحدي ًدا الخريف والربيع‪( ،‬في خريف‬           ‫تلمي ًحا‪ ،‬بيد أن إكماله للسؤال جاء أكتر مفارقة‪ ،‬عما‬
    ‫الغصون القصير)‪ ،‬بما يشير إلى سلبيته‪ ،‬المنوطة‬
   ‫بجفاف الغصون‪ ،‬فض ًل عن إيحاءاته الموجعة‪( ،‬أو‬              ‫أبانه في البدء‪ ،‬حيث بدا ذلك (هل تحس العصافير‬
                                                               ‫أنى‪ ..‬لهم‪ ..‬وطن‪ ..‬أو سفر؟!)‪ ،‬أبان الجزء الأول‬
       ‫ربيع الجذور الطويل)‪ .‬بما يشير إلي إيجابيته‬
                                                            ‫من ذلك المقطع الموزع على ثلاثة أسطر علاقة الكل‬
                                                             ‫بالجزء‪ ،‬أو الأم بالأبناء‪ ،‬أو الوطن بأناسه‪ ،‬ثم جاء‬
                                                              ‫الجار والمجرور (لهم)؛ ليكشف عن حالة الإيثار‪،‬‬

                                                                       ‫مدينة القدس‬
   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59