Page 56 - m
P. 56

‫العـدد ‪60‬‬                     ‫‪54‬‬

                                                            ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

 ‫ينقل معركته إلى الطبيعة؛ ليقيم بين عناصرها عرا ًكا‬         ‫تتماوج العيون عبر الطبيعة‪ ،‬أو عبر السماء‪ ،‬والأخير‬
     ‫ملمو ًسا‪ ،‬بين (الجفاف والريح)؛ ليكشف مأساة‬                ‫أبان عنها المخير الآخر (أو ذهب)؛ ليحمل دلالتين‬
    ‫الشجرة‪ ،‬بل مأساة فلسطين ذاتها‪ ،‬بع ِّدها شجرة‬
                   ‫مهملة تحتاج إلى رعاية واهتمام‪.‬‬           ‫مفارقتين‪ ،‬الأولى‪ :‬بدلالة الذهب (كجوهر)‪ ،‬والأخرى‪:‬‬
                                                                ‫منوطة بدلالة المغيب‪ ،‬وبين الزرقة والخضرة من‬
‫وبعدما أقام الشاعر محمود درويش هنا ذلك الصدام‬
 ‫الحاد بين الجفاف والريح‪ ،‬نجده يلحقه بلازمه (هل‬             ‫جهة‪ ،‬والصفرة‪ ،‬أو الذهب من جهة أخرى‪ ،‬لا تتماوج‬
                                                                      ‫العيون فحسب‪ ،‬بل تتماوج النفوس ذاتها‪.‬‬
   ‫يعرف الفقراء‪..‬؟)‪ ،‬تساؤل يشي بوازع من الجود؛‬
       ‫ليؤكده (أ َّنني)‪ ،‬مع ملكيته لمصدر الريح (منبع‬              ‫يصدر لنا الشاعر محمود درويش عبر صيغة‬
                                                                ‫(بدني) على لسان تلك الشجرة‪ ،‬لامتلاكها البدن‬
  ‫الريح؟)‪ ،‬بما يعني أنه‪ ،‬أو أنها‪ ،‬أو أنهما م ًعا مصدر‬       ‫الذي يقدر على المقاومة والتحدي‪ ،‬في الليل بزرقته‪ ،‬أو‬
      ‫التح ِّدي‪ ،‬فمع الش َّدة تظهر معادن الرجال‪ ،‬ومع‬         ‫حتى ظلامه‪ ،‬لأنها تبعث حياة جديدة‪ ،‬وتتساءل من‬
                                                              ‫أجلها (هل يحس المحبون‪ ..‬أ ِّني‪ ..‬لهم؟)‪ ،‬وكأنها إذا‬
   ‫الجفاف تتقوى الريح بفاعل قوي‪ ،‬لا يزال منتظ ًرا‪،‬‬            ‫ما عطفت على الطائر (العصافير) في المشهد الأول‪،‬‬
 ‫وسند عتيد‪ ،‬يتحدى الطقس بخريفه ومسائه وجفافه‬                 ‫والحيوان الأليف المسالم (الغزالة) في المشهد الثاني‪،‬‬
                                                               ‫فمن باب أولى أن تقدم تخييرها لمحبى المساء‪ ،‬بل‬
                                     ‫وكل مثالبه‪.‬‬              ‫لعشاقه تخيي ًرا جدي ًدا؛ لأنها تمتلكه‪ ،‬لكن هذه المرة‪،‬‬
  ‫وبعدما قدم الشاعر محمود درويش عر ًضا بسؤاله‬                ‫بين الأرض والسماء «شرفة‪ ..‬أو قمر؟»‪ ،‬لنلمح عالمًا‬
   ‫المجيب (هل يعرف الفقراء‪ ..‬أ َّننى‪ ..‬منبع الريح؟!)‪،‬‬            ‫آخر رومانسيًّا؛ تتخلله شرفة في الأرض‪ ،‬كرمز‬
‫نجده يلحقه بتساؤل آخر أشد بأ ًسا؛ ليستشعروا من‬                ‫الانطلاق‪ ،‬وإطلاق البصر والبصيرة م ًعا‪ ،‬وقمر في‬
  ‫خلاله السند القوي (هل يشعرون بأ ِّني‪ ..‬لهم)‪ ،‬نعم‬             ‫السماء‪ ،‬كرمز للحب‪ ،‬والتعلق به في لياليهم‪ ،‬وهي‬
  ‫هي جدلية الأنا والآخر‪ ،‬تتكرر عبر المشاهد الأربعة؛‬              ‫كفيلة بهذه وذاك‪ ،‬لأنها تمتلك البدن القادر على‬
‫ليبين من خلالها التلاحم بين الشجرة وما يحيط بها‪،‬‬                 ‫المقاومة والتحمل‪ ،‬فض ًل عن الانطلاق والسهر‪،‬‬
 ‫وتكرارها على هذا النحو إنما ينقلها إلى درجة أخرى‪،‬‬              ‫إنه تخيير رافد ونوعي‪ ،‬لأنه متعالق بين الأرض‬
  ‫ترتضي التوحد‪ ،‬لا التلاحم فحسب‪ ،‬إذ تتحرك الأنا‬               ‫والسماء‪ ،‬وبينهما يتجاذب المحبون آمالهم وآلامهم‬
 ‫المالكة المدبرة المتحدية المنتظرة (بأ ِّنى‪ ..‬لهم)؛ لتتقوى‬  ‫م ًعا‪ .‬وهي مع كل ذلك لن تتخ َّل عن تخييرها لهم بين‬
                                                              ‫الأرض والسماء‪ ،‬بل ستظل صامدة‪ ،‬وتؤكد أمرها‬
              ‫هي على المواجهة‪ ،‬بل وينتصران م ًعا‪.‬‬           ‫اليقيني بدال الانتظار وملكيته (إ َّنني أنتظر)‪ ،‬متحدية‬
 ‫على أن الشاعر محمود درويش هنا ح َّول تساؤله في‬
 ‫ذلك المشهد بأن يكون‪ ،‬أو تكون تلك الشجرة سلا ًحا‬                                    ‫كل مثالب الليل ومفازعه‪.‬‬

     ‫ذا حدين (خنجر‪ ..‬أو مطر؟)‪ ،‬يشير الأول إشارة‬             ‫راب ًعا‪ :‬الشجرة الخنجر والمطر‬
    ‫واضحة جلية إلى الحدة والإرهاص بالتحدي‪ ،‬بل‬
   ‫الدخول في المعركة‪ ،‬وما الخنجر إلا أداة تتقوى بها‬         ‫يؤكد الشاعر محمود درويش انتظاره المكرور‪ ،‬عقب‬
‫تلك الشجرة‪ ،‬دفا ًعا عن ذاتها وذوات لوازمها‪ ،‬ويشير‬            ‫كل مشهد من المشاهد الثلاثة السابقة‪ ،‬وهنا ينطلق‬
 ‫الآخر (أو مطر؟) إلى سلاح أقوى بكثير من الخنجر‪،‬‬             ‫إلى الطبيعة السلبية؛ ليقاومها هي الأخرى على لسان‬
  ‫سلاح يحمل الوجهين (الخير والشر) م ًعا‪ ،‬الخير له‬           ‫شجرته المهملة تلك (في الجفاف الذي يكسر الريح)‪،‬‬
‫ولها ولكل من يواليهما‪ ،‬والشر لكل من عاداه وعاداها‬
     ‫وعادهما م ًعا‪ ،‬إنه هنا ينتقل عبر وسائله الدافعة‬           ‫حيث تتضح الصورة السلبية للطبيعة‪ ،‬والشجرة‬
‫المهاجمة من الأدنى إلى الأعلى‪ ،‬أو بالأحرى من الأرض‬          ‫تعانى من ذلك؛ لينقل بها الشاعر تشخيصه لها‪ ،‬إلى‬
‫إلى السماء؛ فكان (الخنجر والمطر) معبرين عن رؤيته‬
                                                              ‫تجسيمها‪ ،‬بل تشخيصها هي للجفاف ذاته‪ ،‬حيث‬
                                           ‫تلك‪.‬‬              ‫نقلته إلى رتبة الإنسان؛ ليكسر الريح‪ ،‬والريح ذاته‬
    ‫وبعدما تسلح الشاعر بخنجر ومطر‪ ،‬أو بالأرض‬                ‫يتحول إلى مجسم مادي جامد‪ ،‬يكسره الجفاف‪ ،‬إنه‬
   ‫والسماء‪ ،‬راح يعلن التحدي مرة رابعة‪ ،‬بل ويؤكده‬
     ‫على لسانها وحالها‪ ،‬مؤكدة التحدي الذي تمتلكه‬
   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61