Page 60 - m
P. 60

‫العـدد ‪60‬‬                        ‫‪58‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

    ‫فإن موضوعها محصور بدقة في الطبيعة‪ ..‬ولا‬          ‫اليابانية‪ ،‬وتقوم على التقاط مشهد جزئي‪َ ِ ،‬لا فيه من‬
‫ُيطلب هنا من الشاعر أن يعرض عواطفه‪ ،‬وانفعالاته‬          ‫ألم ومعاناة‪ ،‬أو ما فيه من سحر‪ ،‬أو ما يستدعيه‬
‫الشخصية‪ ،‬وإن كان يمكنه من خلال صور الطبيعة‬             ‫من وقفة تأمل‪ ،‬وعند هذا النص الأخير بومضاته‬
                                                                 ‫الأربعين ستقف هذه المراجعة النقدية‪.‬‬
                               ‫أن يرمز إليها»(‪.)2‬‬
                                                                  ‫الفقر وشقاء الأطفال‬
         ‫قهر المرأة وحرمانها‬
                                                         ‫تحفل الومضات بمشاهد فقر الأطفال وبؤسهم‬
‫ومن الومضات ما هو ذاتي‪ ،‬يعبر عن شعور خاص‪،‬‬                 ‫وشقائهم‪ ،‬ومنها‪« :‬أعيش الألم‪ /‬أطفال حفاة‪/‬‬
     ‫قوامه نكران الرجل حب المرأة‪ ،‬ومنها الومضة‬       ‫يسابقون الريح‪ /‬إلى سيارة‪ /‬توقفت عند الإشارة»‬
                                                      ‫(ص‪ ،)133‬والومضة اجتماعية‪ ،‬فيها حركة‪ ،‬وتدل‬
   ‫الآتية‪« :‬فتح درفتي‪ /‬حدق إلى البعيد‪ /‬وبحسرة‬         ‫على فقر الأطفال وبؤسهم‪ ،‬وعملهم في مسح زجاج‬
   ‫راح يردد‪ /‬قلب حبيبتي‪ /‬بلا نوافذ» (ص‪،)138‬‬                ‫السيارات والتسول‪ ،‬وكان من الممكن الاكتفاء‬
                                                         ‫بالتصوير‪ ،‬فهو أكثر إيحاء‪ ،‬وليس ثمة ضرورة‬
      ‫وتدل الومضة على إحساس المرأة بالقهر‪ ،‬لأن‬
   ‫الرجل لا يرى إلا الظاهر‪ ،‬ويحدق في البعيد‪ ،‬ولا‬                 ‫للتصريح في البدء بالقول‪ :‬أعيش الألم‪.‬‬
   ‫يرى عن قرب‪ ،‬ولا يقدر المرأة التي هي بجواره‪،‬‬              ‫وتنجو الومضة التالية من المباشرة‪ ،‬وتحقق‬
    ‫وهي أقرب ما تكون إليه‪ ،‬بل ينفي أن يكون لها‬               ‫الموضوعية‪ ،‬وتترك للقارئ حرية الانفعال‪،‬‬
 ‫قلب‪ ،‬وهو إحساس مؤلم ج ًّدا‪ ،‬وفي الومضة حركة‪،‬‬             ‫وتعبر عن حالة شبيهة إذ تقول‪« :‬نها ٌر شم ُسه‬
  ‫وصوت‪ ،‬من جهة الرجل‪ ،‬وصمت حزين من جهة‬                 ‫تعوي‪ /‬وامرأة‪ /‬تجر ذيل فقرها‪ /‬وثلاثة أطفال»‬
                                                     ‫(ص‪ ،)136‬والومضة لوحة مكثفة معبرة‪ ،‬بعيدة عن‬
        ‫المرأة‪ ،‬وتحقق الومضة بنيتها الفنية المكثفة‪.‬‬  ‫المباشرة‪ ،‬وغنية بالإيحاء‪ ،‬وتدل على الفقر والشقاء‪،‬‬
‫وتعبر إحدى الومضات عن إحساس المرأة بال َوحدة‪،‬‬
                                                                                ‫من خلال مشهد حي‪.‬‬
    ‫وشعورها بالألم‪ ،‬فتقول‪« :‬يمام‪ /‬زار شرفتي‪/‬‬               ‫ومثلها أي ًضا في دقة التصوير وحسن التقاط‬
   ‫ليته‪ /‬لم يكن طي ًرا» (ص‪ ،)145‬فالمرأة هنا تفرح‬     ‫المشهد‪ ،‬ولعل هذه الومضة أكثر جما ًل وأشد إيلا ًما‪:‬‬
  ‫بيمام ذكر يحط على شرفتها‪ ،‬ولكن تأسى وتتألم‪،‬‬        ‫«أطفال‪ /‬يسابقون الجوع إلى الموت‪ /‬بأقدام‪ /‬فقد ْت‬
                                                          ‫نعالها «(ص‪ )137‬فالومضة تلمح ولا تصرح‪،‬‬
     ‫لأنه طير‪ ،‬سوف يتركها ويطير‪ ،‬وهذه الزيارة‬           ‫وتصور ولا تقرر‪ ،‬وتجعل المتلقي يعاين المشهد‪،‬‬
    ‫العابرة لن تدوم‪ ،‬وهذه هي مشاعر المرأة الحق‪،‬‬
  ‫إذ تريد للحب دوامه واستمراره‪ ،‬والومضة تبعث‬                                              ‫وينفعل به‪.‬‬
                                                            ‫ومن الومضات الجميلة والموحية في السياق‬
      ‫الخيال في النهاية‪ ،‬وتنفتح على تأويلات غنية‪،‬‬        ‫نفسه الومضة الآتية‪« :‬بركة ماء‪ /‬وقدما طفل»‬
                   ‫وتمتاز بالتكثيف وقوة الإيحاء‪.‬‬          ‫(ص‪ ،)140‬وهذه الومضة من أكثر الومضات‬
                                                     ‫تكثي ًفا‪ ،‬وأشدها إيحاء‪ ،‬وإن كانت واضحة‪ ،‬وقوامها‬
   ‫ومن الومضات الجميلة المبنية على صور مدهشة‬            ‫الوصف‪ ،‬وهي خلو من الحركة‪ ،‬ولكنها تدل على‬
‫ولقطات فنية الومضة التالية‪« :‬ثلج يغطي إفريزي‪/‬‬
                                                                                       ‫قسوة المعاناة‪.‬‬
  ‫أنفاسي الحارة‪ /‬غبش يغطي الزجاج‪ /‬ولا أحد‪/‬‬                ‫وتبدو معايير قصيدة الهايكو مناسبة لقصيدة‬
 ‫يكتب عليه كلمة حب» (ص‪ .)146‬والومضة تعتمد‬            ‫الومضة‪ ،‬ويتكلم الدكتور شاكر ُم ْط َلق عليها فيقول‪:‬‬
                                                         ‫«إن الهايكو بالتحديد هي القصيدة ذات الأسطر‬
   ‫على الصورة الطفلية‪ ،‬فالصغار دائ ًما يرغبون في‬           ‫الثلاثة‪ ،‬والمقاطع‪ ..‬التي تحتوي على صور من‬
  ‫أن يكتبوا على الزجاج كلمات‪ ،‬ولكن كم هو صعب‬           ‫الطبيعة أو انطباعات عنها في المركز الأول‪ ،‬وبذلك‬
   ‫عندما يتقدم المرء في العمر‪ ،‬ويحس بالوحدة‪ ،‬ولا‬
  ‫يجد َمن يكتب له كلمة‪ ،‬وعلى الرغم من جمال هذه‬

     ‫الومضة‪ ،‬فقد انتهت بالتقرير المباشر‪ ،‬ولو أنها‬
  ‫اكتفت بالقول‪ :‬ولا أحد يكتب عليها كلمة‪ ،‬من غير‬

     ‫تخصيص الكلمة بكلمة حب‪ ،‬لكانت أكثر إيحاء‬
                                 ‫بالوحدة والألم‪.‬‬
   55   56   57   58   59   60   61   62   63   64   65