Page 63 - m
P. 63

‫‪61‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫نوافذها‪ ،‬ومجتمع يغلق نوافذه‪ ،‬فهو دليل تناقض‬             ‫إنساني مؤلم‪ ،‬فكأن الأوراق هي بنات الشجرة‪،‬‬
‫كبير بين الفرد والمجتمع‪ ،‬ودليل صراع‪ ،‬وقد تكون‬           ‫والريح تكنسها إلى القبر‪ ،‬وكم تود الشجرة لو أن‬
                                                         ‫بناتها الوريقات يظ َل ْل َن قريبات منها‪ ،‬تحنو عليهن‬
  ‫نتيجته مأسوية‪ ،‬لأن فر ًدا واح ًدا لا يستطيع فعل‬
    ‫شيء‪ ،‬كما أن نافذة واحدة لا تكفي‪ ،‬وتبدو هذه‬             ‫بالظلال‪ ،‬لذلك تبدو الغابات أجمل من الحدائق‪،‬‬
 ‫الومضة غنية بالقدرة على الإيحاء‪ ،‬وهي بعيدة عن‬          ‫لأن أوراق الأشجار تظل فوق الأرض تحت ظلال‬
                                                       ‫الأشجار ما بين خضراء وصفراء وحمراء وسوداء‬
                              ‫المباشرة والتقرير‪.‬‬        ‫محترقة‪ ،‬وما أجملها‪ ،‬في حين تبدو الحدائق عارية‬
 ‫وعن وحدة المرأة وإحساسها بالغربة يقول زكريا‬
                                                                        ‫مكنوسة‪ ،‬تتدخل فيها يد البشر‪.‬‬
    ‫إبراهيم(‪« :)7‬وليس أقسى على نفس المرأة ِم ْن أ ْن‬       ‫ومن الومضات الموحية‪« :‬وحشة المساء‪ /‬ذئب‬
‫تشعر بأنها زهرة لا يشتهيها أحد‪ ،‬أو عطر لا يرغب‬         ‫يعوي‪ /‬والليل طويل» (ص‪ ،)139‬وعواء الذئب من‬
 ‫في تنسمه أحد‪ ،‬أو كنز لا يطمع في امتلاكه مخلوق‪،‬‬         ‫بعيد يدل لا شعور ًّيا على ضجيج الرغبة في وجود‬
‫وإلا فلماذا عسى أن تكون تلك الثروة التي لا تغني‬           ‫الآخر‪ ،‬وتعبير عن الإحساس الصعب بالوحدة‪،‬‬
                                                           ‫وإشارة خفية غير مباشرة إلى حاجة المرأة إلى‬
     ‫صاحبها والتي لا يطمع في الظفر بها إنسان»‪.‬‬          ‫الرجل‪ ،‬وحاجة الرجل إلى المرأة‪ ،‬وبالأحرى حاجة‬
‫ومن الجميل أن تبوح المرأة بحاجتها إلى الحب‪ ،‬فقد‬
                                                             ‫الإنسان إلى الإنسان‪ ،‬ليكسر وحدته‪ ،‬وينفي‬
   ‫شهد الشعر العربي على مر العصور عد ًدا كبي ًرا‬             ‫عن نفسه الخوف‪ ،‬ويحس مع الآخر بالأمان‬
 ‫من النساء الشواعر‪ ،‬ولكن شعرهن كان في معظمه‬               ‫والاطمئنان‪ ،‬ولكن الليل طويل‪ ،‬والوحدة قاسية‪،‬‬
                                                       ‫لقد قدمت الومضة مشاهد حسية‪ ،‬تدل على حالات‬
    ‫تقلي ًدا لشعر الرجل‪ ،‬والقليلات ج ًّدا هن اللواتي‬     ‫وجدانية‪ ،‬وكانت بعيدة عن التصريح والمباشرة‪،‬‬
‫تحدثن عن الحب‪ ،‬والحب في الواقع موضوع يشغل‬                   ‫وهذه هي حقيقة الشعر‪ ،‬يقدم الفكرة والحالة‬
 ‫ك ًّل من الرجل والمرأة‪ ،‬ولكن الخجل يمنع المرأة من‬     ‫والشعور من خلال الحس المادي‪ ،‬ولا يشرحه‪ ،‬إنما‬
                                                       ‫يتركه خفيًّا في الأعماق‪ ،‬ليستكشفه القارئ بنفسه‪.‬‬
   ‫البوح‪ ،‬يؤكد ذلك جورج سانتيانا في قوله(‪« :)8‬إن‬         ‫ومن أجمل الومضات ومضة عن معاناة المرأة في‬
‫المرأة هي أجمل موضوع في نظر الرجل‪ ،‬وإن الرجل‬              ‫المجتمع المتخلف‪ ،‬ولا سيما معاناة المرأة الواعية‬
 ‫هو أكثر الموضوعات إثارة لاهتمام المرأة‪ ،‬وإن كان‬        ‫المتطلعة إلى آفاق واسعة وبعيدة‪ ،‬في مجتمع مغلق‪،‬‬
                                                          ‫فتقول‪ :‬مأساتي‪ /‬أني نافذة‪ /‬في بيت‪ /‬لا يفتح‬
        ‫ما في المرأة من حياء يمنعها من الاعتراف»‪.‬‬      ‫نوافذه (ص‪ ،)135‬ويحمل لفظ بيت بصيغة التنكير‬
  ‫إن الومضات الجميلة هي تلك التي تركتها الكاتبة‬
                                                                               ‫إيحاءات أوسع من دلالة‬
      ‫من غير تعليق ولا تفسير ولا تحديد حس أو‬                               ‫البيت‪ ،‬الذي هو بيت الأسرة‪،‬‬
 ‫شعور أو انطباع‪ ،‬وللمتلقي أن يفهم منها ما يريد‪،‬‬                            ‫فقد يعني المجتمع كله‪ ،‬مثلما‬

    ‫أو أن يحس بما تثيره في نفسه من شعور‪ ،‬على‬                                  ‫يعني أي ًضا الأسرة‪ ،‬وهي‬
‫طريقة الهايكو‪ ،‬وهي الأقل عد ًدا‪ ،‬ولكنها الأكثر فني ًة‬                     ‫الوحدة الأولى في المجتمع التي‬
                                                                          ‫منها يتكون المجتمع كله‪ ،‬ومن‬
                      ‫وجما ًل‪.‬‬                                           ‫المؤلم أن في هذا المجتمع نوافذ‪،‬‬
 ‫ولكن المشكلة في القارئ العربي‬                                            ‫أي طاقات وإمكانات يمكن من‬
                                                                          ‫خلالها الإطلال على المستقبل‪،‬‬
     ‫الذي اعتاد على الشعر الذي‬
   ‫يقول فكرة أو حكمة أو يقدم‬                                                     ‫ولكن هذه النوافذ بكل‬
                                                                             ‫إيحاءاتها مغلقة‪ ،‬وهنا يبدو‬
       ‫موعظة‪ ،‬وقد لا يشغله في‬                                               ‫التوتر حا ًّدا بين امرأة تفتح‬
  ‫القصيدة سوى بيت مفرد فيه‬
 ‫فكرة مباشرة‪ ،‬ولم يعتد القارئ‬
 ‫العربي على الشعر الذي يصور‬

      ‫مشه ًدا‪ ،‬أو يعبر عن حالة‪،‬‬
 ‫واعتاد المبدع العربي أن يسعى‬
  ‫إلى توضيح كل شيء للمتلقي‪،‬‬

    ‫فكلاهما ينفران من الغامض‬
   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67   68