Page 57 - m
P. 57

‫‪55‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                      ‫أضافه إليه من سلبية وفقد‪.‬‬        ‫‪-‬تأكي ًدا أو إضافة‪ -‬متسلحة بخنجرها ومطرها؛ ليعلم‬
  ‫ستظل شجرة الشاعر محمود درويش‪ ،‬أو بالأحرى‬              ‫الفقراء أنها لهم‪ .‬وأن الجفاف لا محالة سينكسر‪ ،‬أو‬

    ‫(فلسطين) الأبية رم ًزا للصبر والمثابرة والانتظار‬   ‫يتقطع بالخنجر مرة‪ ،‬ويزول مرات‪ ،‬بل سيزول نهائيًّا‬
   ‫والتح ِّدي‪ ،‬إذ إن الشاعر أطلق على لسانها‪ ،‬كشجرة‬                       ‫بالمطر المغدق المدافع المهاجم م ًعا‪.‬‬

      ‫متحدية منتظرة‪ ،‬أو (فلسطين) المثابرة المتحدية‬        ‫خام ًسا‪ :‬الشجرة المؤثرة‪ /‬المنتظرة‬
‫صيغه النفي بالمستقبل (لن أودع!)‪ ،‬تأكي ًدا على بقائها‬
                                                            ‫يجيء ذلك المشهد الخامس والأخير‪ ،‬ليقبض على‬
  ‫وانتظارها وتحديها أبد الدهر‪ ،‬إذ إن ماضيها عاش‪،‬‬       ‫الدلالة الكلية لتلك الشجرة‪ ،‬حيث يعيد الشاعر محمود‬
  ‫وحاضرها مهمل حتى ممن أحبها وأحبته‪ ،‬ولم يبق‬
    ‫لها إلا المستقبل‪ ،‬الذي تتشبث به‪ ،‬إذ إن تلك الأداة‬       ‫درويش فيه المشهد الأول بمجمل صيغه (خارج‬
                                                            ‫الطقس‪ ..‬أو داخل الغابة الواسعة)‪ ،‬وكأنه يشير‬
    ‫(لن) جاءت بمضارعها (أودع) لتعمق الإحساس‬             ‫صراحة‪ ،‬بل يقول‪( :‬عودكم على بدء)؛ لتكتمل رؤيته‪،‬‬
   ‫بالبقاء وإن أهملت‪ ،‬وبالتحدي وإن ألم بها الخريف‬      ‫حيث يقيم جدلية الخارج والداخل‪ ،‬من بخارج الطقس‬
 ‫والليل والجفاف والريح وح َّدة الرخام وقسوته‪ ،‬إنها‬         ‫ليس إلا من هجر وارتحل‪ ،‬ومن هو بداخل الغابة‬
  ‫شجرة التحدي‪ ،‬أو فلسطين المنتظرة (إ َّنني أنتظر)‪،‬‬
                                                                       ‫الواسعة ليس إلا من أصر واستقر‪.‬‬
      ‫وبعد الانتظار الخامس‪ ،‬عبر مشاهدها الخمسة‬               ‫على أن الشاعر محمود درويش يصرح هنا على‬
   ‫ستظل قوية متحدية‪ ،‬ولن يزيدها الانتظار إلا ق ّوة‬        ‫لسان شجرته المهملة تلك (كان يهملني من أحب!)‪،‬‬
 ‫وإرادة وتحد ًيا ونص ًرا‪ ،‬بعد أن يعود إليها المودعون‪،‬‬      ‫بما يعني أن إهمال المحب لم يكن آ ًنا‪ ،‬أو حاض ًرا‪،‬‬
 ‫ويهتم بها المه َّجرون‪ ،‬ويخلصلها المحبون‪ ،‬وتروضها‬           ‫وإنما كان ماضيًا‪ ،‬على الرغم من حبِّه له‪ ،‬أو من‬
‫العصافير‪ ،‬وتعتادها الغزلان‪ ،‬ويكسوها الريبع بحلته‬        ‫حبها له‪ ،‬لأن صيغة (من أحب) تحمل الوجهين م ًعا‪،‬‬
                                                          ‫وكأنها تعلن إهماله‪ ،‬وإهماله هنا إنما يعني تركها‪،‬‬
                                         ‫البهية‪.‬‬            ‫بل إنكارها جملة و تفصي ًل‪ ،‬غير أنها مستدركة‬
 ‫ونخلص من هذا كله أن الشاعر محمود درويش قدم‬                  ‫لإهماله‪ ،‬أو إنكاره (ولكنني)‪ ،‬بعدم المغادرة‪ ،‬أو‬
  ‫لنا نموذ ًجا شعر ًّيا راف ًدا‪ ،‬وزعه على مشاهد خمسة‪،‬‬  ‫الإهمال‪ ،‬أو الإنكار مثله (لن أودع أغصاني الضائعة)‪،‬‬
‫وكانت بطلته (الشجرة المهملة)‪ ،‬أو فلسطين المهجورة‪،‬‬        ‫إنها هنا تتحلى بالصبر والمثابرة‪ ،‬فض ًل عن المقاومة‬
                                                             ‫والتحدي‪ ،‬لأنها لن تصنع‪ ،‬كما صنع أصحابها‬
   ‫وزاد من إحساسنا بمعاناة الشجرة (فلسطين) أنه‬          ‫وودعوها‪ ،‬وودعوا أوطانهم هاربين‪ ،‬أو مرتحلين‪ ،‬أو‬
   ‫بها تحدى الزمان والمكان والمستعمر‪ ،‬عبر مقومات‬        ‫مهاجرين‪ ،‬إذ تظل باحثة عن أغصانها الضائعة‪ ،‬إنها‬
                                                           ‫ترفض التوديع‪ ،‬وإن كان فيه إشارة إلى الحضور‬
      ‫كثيرة‪ ،‬كالعصافير والغزالة والمحبين والفقراء‪،‬‬       ‫والتودد‪ ،‬كما أنها تتشبث بأغصانها‪ ،‬ليست الذابلة‪،‬‬
   ‫ومقومات أخرى طبيعية كالطقس والغابة والربيع‬            ‫أو المعطبة‪ ،‬أو الهاجنة‪ ،‬أو النازحة‪ ،‬أو حتى التائهة‪،‬‬
                                                           ‫وإنما (الضائعة)‪ ،‬تدلي ًل على حق ضائع مغتصب‪،‬‬
      ‫والخريف والجفاف والريح‪ ،‬وظل يقيم جدليته‬           ‫ومن ذلك السطر الشعري نتأكد أن الشجرة المتحدية‬
   ‫تلك بين الوطن والسفر‪ ،‬والجسد والثمر‪ ،‬والشرفة‬             ‫المنتظرة المهملة هنا‪ ،‬إنما هي (فلسطين) الكبرى‬
                                                          ‫التي ستظل صابرة مثابرة‪ ،‬منتظرة متأهبة للحظة‬
      ‫والقمر‪ ،‬والخنجر والمطر‪ ،‬ليخلص في النهاية إلى‬     ‫الخلاص والانتصار‪ ،‬لا الهروب والانكسار‪ ،‬يدلل على‬
‫مثابرة الشجرة وانتظارها‪ ،‬وعدم هروبها‪ ،‬أو توديعها‬        ‫ذلك السطر ما قبل الأخير (في رخام الشجر)‪ ،‬أي أن‬
                                                       ‫شجرها‪ ،‬أو حتى أغصانها اغتصبت وقطعت وتلبست‬
    ‫حتى يتحقق لها النصر المنتظر‪ ،‬وتتحول الشجرة‬            ‫بالرخام‪ ،‬إ َّنه يعمق الإحساس بمأساتها‪ ،‬حيث قدم‬
    ‫المهملة إلى الشجرة الأسطورة التي تحيا بالوطن‪،‬‬           ‫الشاعر الرخام رمز المستعمر على الشجر‪ ،‬بما‬

                                ‫ويحيا بها الوطن‬

                   ‫هوامش‪:‬‬

‫أستاذ الأدب العربي‪ ،‬كليه دار العلوم‪ ،‬جامعه المنيا‪،‬‬
      ‫عضو اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة‪.‬‬

‫‪ -1‬الأعمال الكاملة لمحمود درويش‪ :‬ص‪.388 :387‬‬
   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61   62